منذ احتلال الضّفة الغربيّة عام 1967، فرضت إسرائيل نظامين قانونيّين في المناطق المحتلّة: فالمستوطنون الإسرائيليون الذين يعيشون في الأراضي المحتلّة يتمتعون بقانون دولة ديمقراطية كما لو كانوا يعيشون فيها، بينما يعيش الفلسطينيون تحت الاحتلال وبنظام قانون حكم عسكريّ قمعيّ. اليوم، تناقش الكنيست تجديد قوانين الطّوارئ الّتي تفرض هذين النّظامين، والّتي يتمّ تجديدها مرّة كلّ 5 سنوات، لتعلن بهذا استمرار الاحتلال.
يعتبر المستوطنون إلغاء قوانين الطوارئ هذه خطرًا كبيرًا، وسط خشيتهم من أن يجدوا أنفسهم تحت الحكم العسكري التمييزيّ والقمعيّ الذي تمارسه السلطات الإسرائيلية في المناطق المحتلّة.
هذه القوانين ليست إلّا تعبيرًا واضحًا عن العنصريّة والتمييز الذي أوجدته إسرائيل، والذي يبني في إطاره واقعًا من نظامين قانونيّين يحافظان على التفوق اليهودي والفصل العنصريّ على أسس عرقية. القصة ليست "خطر" إلغاء هذه القوانين، بل وجودها في المقام الأول واستعدادنا لقبول هذا الوضع، لمدة 55 عامًا.
نعيد في جمعيّة حقوق المواطن نشر تقرير أصدرناه عام 2014 حول النظامين القاضئيّين في المناطق المحتلّة تحت عنوان “نظام حكم واحد- جهازان قضائيّان؛ منظومة القوانين الإسرائيلية في الضفة الغربية”، عرضت من خلاله ميزات الجهاز القضائيّ في الأرض المحتلة عام 1967، وعملية خلق وتنمية نظام قضائيّ رسميّ وممأسس لجهازي قضاء وقانون منفصلين، وذلك على أسس إثنية قومية؛ جهاز قضائي مدني للمستوطنين الإسرائيليين وجهاز عسكري للفلسطينيين.
ويسرد التقرير كيف تمّ فرض سريان الجهاز القضائي الإسرائيلي على المستوطنين في الضفة الغربية، عبر عملية تدريجية امتدت على أربعة عقود، ما أدى إلى نشوء تمييز منهجيّ، مبلور في التشريعات وقرارات المحاكم وصاحب تأثير على كلّ بُعد وبُعد من حياة السكان الفلسطينيّين في الضفة الغربيّة الخاضعين لجهاز قضائي عسكري مجحف منذ العام 1967.
وتتمثل الخطورة الخاصة الواردة في المسح الذي يجريه هذا التقرير، بأنّ الحديث لا يجري عن تمييز عينيّ أو تقنيّ، أو عن قرارات خصوصيّة عينيّة، بل عن جهاز يبلور التمييز المُمأسس بواسطة التشريعات ومؤسّسات الحكم، ويؤثر بشكل مباشر وحتمي على الفلسطينيين في كافة مجالات الحياة، يخص التقرير بعضاً منها، مثل التمييز في تطبيق القانون الجنائي والتخطيط والبناء وحريّة الحركة وحريّة التعبير وقوانين السير وغيرها.
فيما يتعلق بالقانون الجنائيّ ، يظهر التقرير الفروقات الجلية بين الجهازيْن القضائييْن وإسقاطاتها الجسيمة على الحقوق الأساسيّة؛ فهويّة المشتبه به أو المتهم هي التي تقرّر ماهية القانون الذي يسري عليه ومن يملك صلاحية البتّ قضائيًّا بمسألته. فالفلسطينيّ من سكان الضفة الذي يرتكب مخالفة سيُحاكم دائمًا وفق التشريع الأمنيّ أمام إحدى المحاكم العسكريّة، أمّا المستوطنون في الضفة، الذين يمكن من الناحية المبدئية محاكمتهم وفق التشريعات العسكريّة، فإنهم يُحاكمون على أرض الواقع أمام المحاكم في إسرائيل، فقط. ويتجسّد الفصل بين الجهازيْن القضائييْن في عدة مستويات؛ فالتشريع العسكريّ يشمل عددًا لا يُستهان به من المخالفات التي لا تظهر في التشريع الإسرائيليّ، ومنها مخالفة رشق الحجارة ومخالفة الاعتداء على جنديّ (وهو في القانون العسكريّ اعتداء أكثر خطورة من مجرد اعتداء عاديّ) وغيرهما.
وتتباين الإجراءات الجنائيّة عن بضعها البعض بشكل واضح. فمن ضمن سائر هذه التباينات فترات الاعتقال والالتقاء بمُحامٍ ومنالية الإجراءات الجارية للمشتبهين والمتهمين وعائلاتهم. وفي غالب الأحيان، يعكس القانون الإسرائيليّ توازنًا معقولاً بين المصلحة العامّة المتمثلة في مقاضاة ومعاقبة المخالفين وبين حقوق المشتبهين والمتهمين، إذ يتجسّد هذا التوازن في إجراءات من المفترض أن تضمن إجراءً عادلاً. ويفتقر القانون العسكريّ للكثير من هذه الإجراءات والدفاعات، وتؤدّي نظمه المنقوصة إلى انتهاك حقوق المشتبهين والمتهمين الفلسطينيّين بالحريّة والخصوصيّة والكرامة.
ويكتسب التمييز في القانون الجنائيّ بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين في الضفة الغربيّة خطورة خاصة، عند الحديث عن القاصرين. فإذا أخذنا ولديْن، إسرائيليّ وفلسطينيّ، متّهميْن بارتكاب المخالفة ذاتها، مثل رشق الحجارة، فإنهما سيحظيان بتعامل مختلف جوهريّ من طرف جهازيْن قضائييْن منفصليْن. فالولد الإسرائيليّ سيتمتع بدفاعات وحقوق واسعة مكفولة للقاصرين في القانون الإسرائيليّ، الذي يشدّد بشكل خاص على الحفاظ على سلامة القاصر، وفي المقابل، سيحظى الولد الفلسطينيّ بدفاعات وحقوق مقلّصة، لا تكفي لضمان سلامته الجسديّة والنفسانيّة، ولا تعبّر عن احتياجاته الخاصة كقاصر بما يكفي.
فعلى سبيل المثال، يُلزم قانون الشبيبة الإسرائيليّ، بجلب القاصرين بين جيل 12-14 عامًا أمام قاضٍ خلال 12 ساعة من لحظة اعتقالهم، والقاصرين فوق 14 عامًا خلال 24 ساعة. وفي المقابل، يسمح القانون العسكريّ باحتجاز قاصرين فلسطينيّين تراوح أعمارهم بين 12-14 عامًا ليوم كامل في المعتقل، من دون مثولهم أمام قاضٍ، وحتى ليوميْن في الحالات الاستثنائيّة. أمّا القاصرون فوق سنّ الـ 14 فإنّ القانون العسكريّ يسمح باعتقالهم حتى 48 ساعة في الحالات الاعتياديّة، و48 ساعة أخرى في الحالات الاستثنائيّة. وعند الحديث عن مخالفات أمنيّة فإنّ القانون العسكريّ يسمح باحتجاز قاصرين تزيد أعمارهم عن 16 عامًا حتى 4 أيام، وحتى 8 أيام في ظروف استثنائيّة، من دون أيّ رقابة قضائيّة.
وفي الوقت الذي يحظى فيه القاصرون الإسرائيليّون تحت سن 14 عامًا بحصانة أمام عقوبات الحبس وفق القانون، فإنّ القاصرين الفلسطينيّين من أبناء 12-13 عامًا يعتقلون بشكل دائم، وأحيانًا لفترات قد تصل عدة أشهر. زدْ على ذلك أنّ القاصرين الفلسطينيّين لا يتمتعون بحقّ وجود ذويهم أثناء التحقيق، خلافًا للقاصرين الإسرائيليّين، ولا يُلزم القانون بإجراء أيّ توثيق صوتيّ أو صوريّ للتحقيقات التي تُجرى معهم. كلّ هذه الأمور تشكّل أرضًا خصبة للتصرّفات اللاغية أثناء التحقيق ولانتهاك حقوق القاصرين، كما يحدث فعلاً في أحيان متكرّرة وفق تقارير المنظمات العاملة في مجال تمثيل القاصرين الفلسطينيّين في الضفة.
ويؤكد التقرير في تحليله نشوء جهازي قضاء وقانون منفصلين أنّ الحكم العسكريّ في الضفة الغربيّة ينتهك أحكام القانون الإنسانيّ الدوليّ وقوانين حقوق الإنسان، في مجالات اُستعرِضت في هذه التقرير وفي مجالات أخرى، حتى إذا تم النظر إلى الموضوع بمعزل عن وجود جهازيْن قانونييْن والتمييز المترتب عن ذلك. فعلى سبيل المثال، فترات الاعتقال المتّبعة بخصوص الفلسطينيّين لا تلائم المعيار الدوليّ، حتى من دون مقارنتها بتلك السارية على الإسرائيليّين القاطنين في الأراضي المحتلة. وعلى هذا النسق، فإنّ غياب التخطيط للقرى الفلسطينيّة ومنع التطوير الفلسطينيّ في منطقة C ينتهكان، بحدّ ذاتهما، واجبات إسرائيل المفروضة عليها وفق القانون الدوليّ، حتى إذا تجاهلنا التطوير المتسارع في المستوطنات. زدْ على ذلك أنّ بعض هذه الانتهاكات الواردة في التقرير كانت ستجري، على ما يبدو، حتى لو كان الفلسطينيّون والإسرائيليّون خاضعين لجهاز قانونيّ واحد تحت نظام الحكم الإسرائيليّ في الأراضي المحتلة.
إلا أنّ التمييز المُمأسس الموصوف في التقرير يُعمّق انتهاك حقوق الفلسطينيّين ويزيده حدّة، وهو يشكّل في بعض الحالات السبب الكامن من وراء التمييز. إلى جانب ذلك، فإنّ النظام القضائيّ المزدوج والمُميّز يشكّل بحدّ ذاته انتهاكًا للقانون الدوليّ، إذ أنّ مجرّد وجوده يناقض مبادئ القضاء المعاصر الأساسيّة، ويشكّل انتهاكًا فظًّا للمساواة وكرامة الإنسان، كقيمتيْن أخلاقيتيْن وكمبدءين قضائييْن.
وفي تعقيبٍ للمحامية تمار فلدمان، مديرة قسم حقوق الانسان في الأراضي المحتلة في جمعية حقوق المواطن ومعدة التقرير، قالت “لا يدور الحديث عن تمييز عينيّ أو تقنيّ بين المستوطنين والفلسطينيين، بل عن تمييز منهجي وممأسس، حتى في مجالات لا علاقة لها بالأمن، وعلى المجتمع الاسرائيلي أن يقر بهذا الواقع ويعترف به.”
يرفق للتقرير تعقيب وزارة العدل والتي بدورها لم تنف عرض الحقائق الواردة في التقرير وتعللها بالدوافع الامنية.
لقراءة ملخّص التقرير من هنا